الحياة رحلة بدأت بصرخة مدوية، وتنتهي بصمت مطبق، وبين الصرخة والصمت الحصاد.
لا أعرف لم ألحت ذكراه على خاطرى فجأة، وقررت أن أزوره، وذهبت إلى بيت أبي، وعندما وصلت تداخلت أصواتًا بعيدة على سمعي، أجلت نظري يمنينًا ويسارًا؛ لعلي أدرك سبب هذه الضوضاء التي تطوق بيتنا، لم أبالِ لذلك من كثرت تشوقي لرؤياه، ولكن استقبلتني وجوه باكية حزينة، اضطربت
خفقات قلبي كثيرًا، وسألت بكلمات مبعثرة عن مكانه، لم يجبني أحد، ذهبت مسرعًا إلى الغرفة الأخرى، حينما نظرت إلى داخلها؛ وجدته جثة هامدة، شاحبة لا آثار للحياة على ملامحه، كيف هذا؟
فرجعت في رعب شديد، رافض التسليم بحقيقة أعلمها، إنني أرى الآن أمي في حالة هستيرية من
الصراخ والعويل؛ فأدركت حينها الفاجعة، لقد توفى أبي، هل هذا حقًا؟
هل ما رأيته حقيقة؟
انهرت وجلست في أحد أركان الغرفة أبكي، لماذا تركتني وحيدًا أعيش فقد على ذكراك، أتوق شوقًا
إليك، أحتاج إلى طبطة يديك، لِمَ غادرت؟
بدء الصراخ يعلو والبكاء يشتد، وها حدث ما لم أريد أن أراه؛ لقد حانت اللحظات الأخيرة، وبدأ الجميع يردد الآيات القرآنية، وحان لحظة خروجه من البيت، والجميع يحملون ذلك الصندوق
الخشبي المرعب على أكتافهم، وبدأ الجميع يفسحون المجال لمن يحملوه؛ ليدخلوا به القبر.
ظللت أبكي كثيرًا، ولم أنم تلك الليلة، كانت الساعة تقارب الرابعة صباحًا، عندما تناهى صوت البكاء والعويل من البيت، صرت إلى النافذة وجلست، بعد هذا أخذت شهيقًا وزفيرًا ونظرت إلى
السماء، كانت ليلة باردة، والقمر يتلألأ في السماء، والنجوم ساطعة حد الرؤية،
وقلت: لماذا تركتني ورحلت يا أبي؟
ظللت أبكي في صمت، وقلبي يتعثر ألمًا، سمعت أحدًا يطرق الباب، وما هو إلا أمي، ودون وعي وجدت نفسي ألقي جسدي بين زراعيها، ظللت أقبل في وجهها وأبكي وأنا أشكو لوعة روحي.
وجدتها تعطيني جوابًا؛ لقد وجدته في غرفة أبي، رحلت أمي وتركتني مندهشًا، ما هذا الجواب؟
عندما فتحت الجواب، لقيت مكتوبًا فيهِ: "إلي ولدي العزيز، كنت طول حياتي وأنا طمع وراغب في كل شيء في الحياة، لم أفكر بالموت قط؛ لأنني كنت نهمًا للحصول على الكثير من الأشياء في الحياة، والوصول للكثير من الطموحات والمطالب، كنت أظن أن كل ما في الحياة هو جمع المال والغنى الفاحش؛ لأن المال يضمن لي الحب من حولي، وطاعتهم واحترامهم لي، ولكن مرت الأيام والسنين، وازداد الألم مع ازدياد شعوري بالنقص، شعرت بالندم لضياع كل تلك السنين من عمري، لم أجد وقتًا للعبادة، ولا وقتًا للجلوس مع أمي وأبي ومعرفة مشاكلهم، ولكن بعد فوات الآوان.
وصيتي لك يا ولدي: أن تهتم بالعبادة وطاعة والدتك، أعلم يا ولدي أن الدنيا فانية، ولم تأخذ معك في الآخرة إلا أعمالك في الدنيا، وسيرتك الطيبة وسط الناس؛ فاعمل للآخرة حسنًا؛ فها أنا يا ولدي عبرة لنفسي قبل الآخرين، تمزقني أسياخ الندم؛ فغاب السند، وغاب المال، وكل أشاح بوجهه وتركوني في أشد احتلال الأسى، أتمنى تدعو لي لم أمُت، وتتصدق على روحي، لا تنسانى في دُعائك يا ولدي، اه؛ لقد نسيت أن أخبرك أنني كنت مريض قلب، وكنت أعلم بأنني سوف أموت، قبل أن أموت كنت أدعي لك في صلاتي؛ أن الله يرجعك عن طريق الخطأ، في النهاية أقول لك: إنني أحبك كثيرًا."
«من أب إلى ابنه»
انهمرت بالدموع وكانت تسيل بغزارة، وهمست في نفسي: أبي كان مريضًا ولم يخبرنا حتى، لِمَ يا أبي؟
ومن هنا قررت أن أبدأ حياة جديدة مع الله، ظللت مواظبًا على الصلاة التي هي عماد الدين، الذي إن صلحت صلحت باقي الأعمال، وكنت أدعو الله أن يغفر لأبي، وأتصدق على روحه، ومرت السنين، وتزوجت امراة صالحة تعينني على العبادة، وأنجبت منها ولدًا، أسميته على اسم أبي، وعلمته أمور ديننا من صغره، وها أنا أكتب له وصيتي مثلما كتب لي أبي العزيز.
أماني العيسوي
إرسال تعليق